عندما تتعثر فجأة بعد سنوات طويلة من ارتباطك بصديق ما وتنتهي تلك العلاقة التي حسبتها أثمن مالديك تبدأ في التساؤل: هل قصرت في فهمه ؟ هل فاتك بعض الإشارات التي تقول إنه لم يكن يوما صديقا كما ابتغيت ؟ هل قمت بعمل ما هدم جدران ذلك الرباط الجميل ؟ لماذا لم يستطع فهم حبك له وتضحياتك من أجله ؟ لماذا كان سهلا أن ينساك وكان صعبا عليك أن تفعل؟ وفجأة تجده يستمر في التعامل معك لكن كأي شخص عادي بمنتهى البرود دون أن تعلم أسباب تحوله. لماذا تشعر أنت بالغصة لذلك ويحذفك هو من قاموسه بمنتهى القوة والجرأة دون أن يبالي ؟ وبين هذا السؤال وذاك تحتار لأنك في الواقع لن تعرف ما السبب في انفلات عقد هذه الاسوارة التي دامت لامعة لأيام وليال طويلة وحملت أجمل الذكريات، وأروع المواقف.
نتحدث هنا عن أصدقاء فرقهم موقف ما ... أصدقاء لا يعني أن أيا منهما كان سيئا يوما ما، بل ربما أخفق الاثنان في استيعاب كل العلامات التي كانت تقول منذ البدء :إنهما لن يستمرا طويلا . خذ على سبيل المثال صديقا يعطي بلا حدود ، يستمع بلاحدود ، يساند بلا حدود ، وآخر يستمتع بما يأخذ . أنت في تلك العلاقة تفتقد شيئا جوهريا وهو تبادل العطاء والحب والتفهم والاستيعاب . أنت تعطيه حقه في ذلك وتنسى ذاتك حتى لا تفقده يوما والحقيقة أنك قد فقدته منذ أن تعرفت عليه لأن أهم أسس الصداقة القوية لم تكن جزءا من مفرداتكما يوما . هذا الاساس هو التبادل والمشاركة ، فانعدامهما يشبه الحب من طرف واحد، حب مصيره الموت رغم أي محاولات.
هذه التجربة لابد أنها مرت بالكثير منا وأصابته بالدهشة وحطمه الألم لفقدان صديق عزيز، ولم تعينه كل الذكريات والسنوات الطويلة على أن ينسى صدمته في ذلك الصديق. ولعل تحليل الصدمة وفهم أسبابها قد يكون جزءا هاما من إيجاد السلام الروحي ونسيان هذا الحزن. فإن كنت ذكيا بما فيه الكفاية فعد للوراء قليلا واستحضر كل المواقف الكبيرة والصغيرة التي عشتماها سويا وستندهش من كم الأمور التي ستتعثر بها التي يمكن أن تخبرك كم كان صديقك شخصا أنانيا، أو مختلفا عنك، وكم كنت تتغاضى عن هذا وذاك لأنك تحترم ما بينكما وتقدره.
الاختلاف هنا لا يعني أنه قد تعمد الإساءة إليك ،إنما إعطاؤه الفرصة ليقوم بذلك معك كان شيئا من المساعدة التي قدمتها له دون أن تقصد. فأنت حينما تتغاضى عن أمر ما ضايقك منه ولا تصارحه به خوفا على مشاعره فأنت تشجعه على إيذائك أكثر ، وأنت حينما لا تنبهه عن الأمور التي تجرحك وتتركه يرتكبها أمامك وأمام الآخرين فلايمكنك أن تلومه إذا استمر في استخدام هذا الأسلوب لإشعارك بالضيق، وأنت حينما تشاركه المواقف أو الأماكن التي لاتحبها لمجرد أن تجامله ،ودون أن تشير إليه بعدم ارتياحك لفعلها أو زيارتها فأنت تسهل عليه مهمة حملك دون إرادة لما يحبه وعدم الاهتمام برغباتك التي لم تعلن عنها. وأنت حينما تتركه يملؤك بمشاكله دون أن تطالبه يوما بالتوقف لتحكي له ما تمر به أنت أيضا من هموم فلا تلم أنانيته لأنك صنعتها بإهمالك حقك.
هذه المواقف الصغيرة التي ربما تمر بنا يوميا ولا نعطيها ما تستحق من اهتمام هي في الحقيقة المسمار الذي تدقه في نعش تلك الصداقة شيئا فشيئا لتفاجأ بأنها ماتت يوما، وإن كنا نعيش في الحياة مرة واحدة فالحياة تستحق منا أن نعيشها بسعادة، وتلك السعادة تتأتى من أمور عدة أهمها : اختيارك أصدقاءك . فإن كنا نرتبط بأسرنا فنحن نعيش جل أعمارنا مع أصدقائنا فهم نافذة السلام والطمأنينة عندما تشتد رياح الحياة وتكبر بنا أحلامنا فلا يوجد من يستطيع تحملها معنا سوى صديق مخلص. والشكوى الدائمة من فقد الأصدقاء أو الشعور بالصدمة لموقف هز كيان هذه الصداقة لا يحدث هكذا بين يوم وليلة، لأنها عدة طبقات من الوهم بنيناها مع السنين وتصورنا أنها كونت لنا صديقا مخلصا، لكننا في الحقيقة نحن من صنعنا الوهم وصدقناه، لهذا ( كما في الأشياء الأخرى من حياتنا ) لابد أن يكون للحاسة السادسة لديك، ولعقلك دور في الحكم على ما يخترق جدران قلبك ، خاصة الصداقة التي لا غنى لأي منا عنها . لا تغفل عن أمور أزعجتك وعبر عن ضيقك منها فإن تقبلها صديقك واعتذر فهذا يعني أنه يهتم لأمرك وإن استخف بها فلا تبالي بوجوده في حياتك وانهي هذه الصداقة لأنها ستكون عبئا عليك. فاختيارنا ردود أفعالنا، وأفكارنا تجاه من يعيشون حولنا له دور كبير في تحديد قدر السعادة التي سنتمتع بها معهم أو التعاسة التي ستحطم مشاعرنا عاجلا أو آجلا. ففي الصداقة لابد أن يشعر الطرفان بأنهما يعبران بحرية كل عن ذاته، دون حرج ودون خوف من ملامة ودون توقع للخيانة. فإن حدث واتخذ أحد الصديقان قرارا بالانفصال المفاجئ دون تبرير ذلك ودون إعطاء الطرف الآخر الفرصة لفهم ظروف هذا الانفصال فذاك الصديق لم يكن يوما شخصا يستحق منك الاهتمام ولا حتى أن تضعه في قائمة أسباب السعادة في حياتك. إننا في الصداقة نبتلع الأمور الكبيرة ونضحك من الأمور الصغيرة ولا نخاف من أن نخبر أصدقاءنا بحاجتنا لهم ، ونتوقع منهم فهمنا حتى في أخطائنا وعيوبنا، وننتظر منهم أن يجرحوننا بصدقهم لأنهم يهتمون بأمرنا، ويتحملون دموعنا لأنهم يعلمون كم هو مهم لنا أن نجد أكتافهم مرفأ لنسيان الأحزان ، ونعلم أننا حتى لو أسأنا إليهم عن غير عمد بكلمة أو موقف سيجدون ألف عذر ليسامحونا، فإن استيقظت صباحا ووجدت أنك فقدت صديقا لم يحقق لك شيئا من هذا فلا تتألم لأنك ستكتشف كم كان هذا الصديق مجرد مضيعة للوقت وأنك تستحق من هو أفضل .